صالح عوض
كثيرة هي أدوات الهدم في الأمة العربية فكل النخب المتغربة والمعادية لهوية الأمة وشخصيتها، وكل الحالات الانفصالية في الأمة مشرقا ومغربا -تحت عناوين عرقية او مذهبية او جهوية- انما هي من إنتاج مصانع الأفكار في الدوائر الاستشراقية الاستعمارية إما مباشرة او بالإيحاء، وتتعهد الأجهزة الأمنية الغربية و الصهيونية برعايتها بالتدريب والتسليح والإعلام والسياسة.. وهي تتكامل مع مهمة الكيان الصهيوني في تفتيت الطاقة العربية ومنع العرب من النهوض وتحقيق التآكل الذاتي للقوة والقدرة العربيتين.. وجعل ثروات الأمة نقمة عليها تنفق في ما يعزز الإرهاق والصراع البيني.. لذلك فان حديثنا عن فلسطين وقضيتها ينبغي ان يمتد الى كل جرح عربي وكل ألم عربي فالحروب في ساحات العرب لا هدف منها الا تدعيم الكيان الصهيوني وتأمينه استراتيجيا.
الصهاينة وراء كل مصيبة:
يرى حاييم كورن (2019) بأنّ “الأهمية الاستراتيجية المتبادلة لجنوب السودان وإسرائيل شكّلت الأساس لعلاقات طويلة الأمد، منذ أواخر الستينات إلى الوقت الحاضر. خلال عقود الحرب الأهلية في السودان، رأت إسرائيل في الجنوب حليفاً محتملاً في منطقة معادية عربية-اسلامية. بدورها ينظر جنوب السودان إلى إسرائيل كمصدر للمساعدة العسكرية وشريك وفي كتابه “في بعثة الموساد في جنوب السودان يوميات معركة“، تم الكشف وللمرة الاولى بأن دور رجال الموساد وضباط الجيش الإسرائيلي لم يقتصر على مساعدة المتمردين الانفصاليين من خلال الارشاد العسكري والمساعدات الطبية فحسب، بل أنهم شاركوا بشكل فعلي ولمدة عامين في العمليات العسكرية، بما في ذلك نسف وتفجير الجسور وإصابة عبّارات الإمدادات العسكرية في مياه النيل“ . وكان الهدف تعطيل قدرة الجيش السوداني على ارسال الامدادات التموينية والذخيرة وإسناد الجنود المشاركين في قمع التمرد في الجنوب..
وتواصل الوثائق التي تصدر في الكيان الصهيوني كشفها للأدوار الأمنية التي تستهدف السودان من خلال توفير المناخ السياسي الدولي لإخضاع السودان لواقع التقسيم، وبالفعل تضاعفت الضغوط على البلد الذي أصبح مجبَرا على اختيار أحد السبيلين: إما التفريط بجنوب السودان الذي يعج بالمشاكل والأزمات والمتمردين، أو أن يتعرّض البلد كله للانهيار.. على الأقل هكذا أوصل الغربيون الرسالة إلى السودان واشترك مع الغربيين بعضُ الأطراف العربية التي قامت بوضوح: إما في دعم المتمردين، أو حمل الرسائل إلى السودانيين بضرورة التسليم بواقع الانفصال.
نفس الامر يمكن ذكره على دعم الموساد الاسرائيلي للانفصاليين الاكراد في شمال العراق حيث يذكر ديفد بن اليعازر الذي مكث لعدة سنوات في اربيل عن علاقة جمعته بالملا مصطفى البرزاني لتدريب قوات كردية في شمال العراق قبل ان ينهي اتفاق الجزائر في 1975 علاقة ايران الشاه بالاتفصاليين.. والأمر نفسه ينطبق مع كل حركات الانفصال في الوطن العربي فهي توأم طبيعي للكيان الصهيوني بينهما شريان عضوي يتكاملان في مهمة واحدة ولولا خوف الاطالة لاشرنا اليها واحدة واحدة وذكرنا من المراجع الكثير الذي يبرز بجلاء طبيعة الانفصالين في المنطقة العربية انهم ليسوا اكثر من ادوات للصهاينة في المنطقة العربية لاربكاها وتعطيلها.
السودان وحلم الاكتفاء الغذائي:
هناك على بوابة القرن الافريقي يقف السودان مجاورا سبع دول افريقية يتداخل العربي فيها بالإفريقي مما يعطي للموقع حساسية خاصة بمساحة تقترب من مليوني كيلومتر مربع وبسكان يزيدون عن 35 مليون نسمة وبموارد طبيعية بكر لم تمتد اليها يد الإنسان، وهي سلة غذاء العرب في معركة الصراع على الغذاء القادمة ويمتد على البحر الاحمر مشكِّلا معبرا وحيدا لدول مغلقة في اعماق افريقيا.
زرت السودان أربع مرات كانت أولاها في صيف 1990 كانت البلد في حالة بائسة ولا اذكر أني رأيت طريقا معبدا في العاصمة سوى ذلك الذي يمر من أمام القصر الجمهوري وكذلك الطريق الواصل بين الخرطوم وأم درمان.. لقد تولت جماعة الشيخ حسن الترابي الحكم بعد ان تورط النميري في صفقات نقل الفلاشا الى الكيان الصهيوني مقابل عدة ملايين من الدولارات بعد ان افلست الحكومات المتتالية البلد واصابته المجاعة في الصميم.
وكانت آخر مرة في 2019 أثناء الحراكات اليسارية والتظاهرات النقابية..كانت الخرطوم مدينة تضج بالحياة المحلات التجارية والسوبر ماركت والمطاعم والفنادق والطرق المعبدة والحيوية في الاسواق، وذلك في ظل تشجيع للاستثمار الاجنبي رغم ان الحصار والعقوبات الامريكية والغربية متواصلة على السودان منذ زمن طويل.. فكان الفارق مذهلا بين الرحلة الأولى والأخيرة.
وبتأمل عناصر الحضور الجيواستراتيحي للسودان يمكننا القول ان البلد من الأهمية للأمن القومي العربي بمكان بارز. ومن المعروف دور السودان في إفريقيا حيث تميز هذا القطر العربي باتجاهه إفريقيا ينشر العربية والإسلام وقد أصبح بذلك محورا لكل دول القرن الإفريقي.
كل ذلك أصبح أمام المجهول عندما استقوت قوات الدعم السريع التي تشكلت وفق ظروف استثنائية في مرحلة سابقة حيث شاركت الجيش بالانقلاب على نظام عمر البشير، في ما يشبه المسرحية نفذها اليساريون الذين استنجدوا بالجيش لحسم الخلاف مع النظام ، تحرك الجيش باتفاق مع الدعم السريع وبترحيب بالغ من اليساريين لتشكيل مجلس سيادة وحكومة من قبل اطراف في المعارضة لم تستطع الاتفاق على برنامج او اهداف موحدة..وهنا لابد من التوضيح انه لم يكن لدى مجلس السيادة رؤية واضحة للمطلوب بعد ان اصبح الانقلاب العسكري امرا واقعا وبدأ التصدع في علاقات المعارضة مع الجيش وقد شهدت السنوات الثلاث بعد الانقلاب حالة شد وتوتر بين الطرفين الى ان اتجه الدعم السريع للتمرد بعد ان استفاد من علاقته بالجيش حيث جند الاف السودانيين باغراءات وامتيازات وكذلك تمكن من السيطرة على منشأت رسمية او شعبية..
لا يمكن استبعاد وجود أيادي خارجية تعبث بالسودان الذي يمثل أملا في الاكتفاء الغذائي الذاتي العربي والمعامل العربي المهم في تفعيل البعد الإفريقي لصالح العرب، ولقد حاولت بعض دول الجوار التدخل في البلد بشكل سافر عندما دعت لخلو العاصمة من الجيش كخطوة لحل الأزمة، كما حاولت الإدارة الأمريكية التدخل في صيغ للتسوية لإبقاء الأزمة تحت الرماد بحجة وقف إطلاق النار وإيجاد ممرات آمنة للمساعدات، إلا أن سير الأمور يتجه الى ان الحسم العسكري بعد ان تأكدت قطاعات واسعة من الشعب السوداني ان وقوفها خلف الجيش ضمانة استقرار ومستقبل.
هنا لابد من الإشارة الى غياب أولئك الذين انشغلوا بالحراك ضد حكم البشير واستجلبوا الخيار العسكري وهم الآن رغم سوء الظروف وغياب سبل الأمن والمعيشة الكريمة لا تكاد تسمع لهم صوتا،فتبرز أسباب الحراك من جديد ان جوهرها أيديولوجي ونفسي أكثر من كونها ترتكز لمصلحة البلد ومستقبله.
في تناول ملف هذا البلد نكتشف عدة قضايا تلقي بضوئها على واقعنا العربي والاسلامي، أولها: ان هذا البلد يزخر بأنواع التعدد الاستراتيجي من حيث الثروة والموقع الجيوسياسي..
ثانيها: ان الاهمال المتعمد من قبل الاطراف العربية الاخرى للاهتمام بهذا البلد الاستثناء في عنصريه التوغل في افريقيا والوفرة الكبيرة لعناصر الحياة يعني بوضوح اننا نقع تحت ضغط توجيهات غربية لاضطرارنا الى التسول على ابواب الغرب وشركاته في مجالات عديدة على راسها الغذاء لتستمر عملية تبعيتنا للغرب الاستعماري..
ثالثا: ان النزاع السياسي بين الانظمة العربية بشع الى درجة انه يحرم الامة من التكامل والرفاه والسعادة ويستبدل ذلك بالحروب والتآمر على الامن الداخلي للبلد والاستقواء بالاجنبي.
ملامح السودان ومستقبله:
وهنا لابد من الاشارة الى مسألتين الاولى تلك التي تتعلق بالجانب الجيوسياسي والثانية تلك التي تتعلق بجانب المخزون الاستراتيجي للعرب من حيث الغذاء والمياه.. وتكامل هاتين المسألتين يعني أننا نحدد ملامح السودان وملامح قضيته الحس العربي والمستقبل العربي.
فعلى صعيد كونه مخزونا غذائيا استراتيجيا للعرب يكفي ان نعطي بعض الارقام ففي السودان تتنوع اصناف الحيوان ” جمال وابقار واغنام وضأن” ويقدر عددها بـ110 مليون راس تم احصاؤها، وهناك ملايين الابقار التي ترعي بدون احصاء في مراع شاسعة تزيدها الامطار والنيل بفرعيه وروافده العديدة خصبا وحيوية.. كما ان الثروة السمكية التي يوفرها النيل والبحر الاحمر تعتبر ثروة سمكية ضخمة يقدر مخزونها بـ110 الاف طن في العام، وفي السودان تتواجد كميات مذهلة من الذهب والفضة والكروم والزنك واحتياطي كبير من البترول والغاز الطبيعي.. وتوجد الاراضي الشاسعة على مد طول وعرض السودان تصلح للزراعة بارخص التكلفات لتوفر المياه وخصوبة الارض.. فيكفي ان نعرف ان الاراضي الخصبة المسطحة متوفرة المياه تبلغ مساحتها اكثر من 100 مليون هكتار تصلح لإنتاج تنوع مزروعات لا يجتمع لسواها والتي يتربع السكر والزيت على راسها والغابات تغطي 12% من اراضي السودان..
اما الموقع الجيوسياسي فيكفي ان نشير الى ان السودان يتحكم في مفاتيح القرن الافريقي سياسيا وثقافيا، ولقد عاد السودان موئلا لشعوب الاقليم من حيث المعيشة والثقافة بقيام السودان بمهمة رسالية بالتعريف بالإسلام والعربية من خلال معاهده وجامعاته المتخصصة في هذا المجال، ورغم ان الاجهزة الامنية الصهيونية وبدعم فرنسي وامريكي قامت بتحشيد قوى اقليمية وداخلية لتفتيت السودان الا ان الجغرافيا اصرت على اسقاط الدخيل المصطنع وواجهت وحدة السودان الجغرافية الحديثة اهتزازات كادت تعصف به ونحن نرى كل دول المحيط تتآمر عليه بعمل عسكري تخريبي، وتعد القواعد العسكرية للمتمردين على كل حدوده وتقوم بتسريب السلاح للمجموعات المتمردة والتي كانت قوى الانفصال الجنوبي على راسها حيث كانت تتمتع بحضور لدى كل دول الاقليم، واستمر الضغط لتفجير السودان الى اقليم متناثرة في دارفور وكردفان وسوى ذلك من ولايات.. أي انهاء وجوده لانهاء دوره.
خاض السودان معركة الوجود وحيدا وهو مهدد بتقسيم بلده الى خمسة اقاليم إن لم يدرك العرب وبالذات المجاورين خطورة ذلك والتي تتمثل في ان اسرائيل ستصبح جارتهم الافريقية، وان التناحر القبلي سيؤدي الى انتشار الارهاب،
امنيا واستراتيجيا يوفر استقرار السودان حصانة عربية استراتيجية للامن القومي العربي لاسيما لمصر وبلاد المغرب العربي، كما انه تمدد للنفوذ العربي في مواجهة النفوذ الصهيوني في افريقيا.. واستراتيجيا يكون استقرار السودان فرصة كبيرة للاستثمار العربي في منطقة هي الاخصب في بلداننا العربية يمكنها ان تغطي كل احتياجاتنا الغذائية وتوفر لنا فرص القرار السياسي المستقلّ غير المرهون بالتبعية الغذائية للغرب الاستعماري.. واستراتيجيا ايضا يمكن النظر الى هذا البلد على اعتبار انه يمثل راس القرن الافريقي وحماية خاصرة العرب الاستراتيجية بالقرب من باب المندب.. وبذلك يكون البحر الاحمر بحيرة عربية بامتياز..
لقد كان الدور الفرنسي الثقافي التخريبي يتزعم عملية التنصير للوثنيين في الجنوب وينشر عنهم الروايات غير الصحيحة، ومن خلال عملية التنصر تتم عملية ضخمة من الاختراق الأمني.. تعاضد ذلك مع الدور الأمريكي الذي خاض عملية منهجية لإرهاق الحكومة وتحويلها عن ادوارها القومية لاسيما في الموضوع الفلسطيني والعربي جملة،.. اما اسرائيل فلم تتردد في القيام بعمليات عدوانية مست سيادة السودان ومواطنيه من خلال عدة غارات لطيرانها العسكري.
امريكا واسرائيل وفرنسا هذا الثالوث التخريبي الذي عمل جاهدا خلال خمس و ثلاثين سنة لتدمير السودان، ولم يكن الإقليم بمنآى عن المشاركة في العملية الواسعة بل لعل بعض العواصم العربية والافريقية شريك كبير في المهمة.. صمد السودان رغم انه اضطر لقبول الانقسام.. مستهدفة استقرار السودان ووحدته.
السودان ليس فقط موقعا استراتيجيا مطلا على الدول الحاسمة في القرن الإفريقي، وهذا وحده كاف للفت النظر إليه، إنما هو أيضا سلة غذاء العرب ويحوي من الطاقات الطبيعية ما لا يتوفر لدى كثير من البلدان العربية الرئيسية، فضلا عن كونه عميق الإحساس بمسئوليته التعليمية والدعوية ونشر رسالة الإسلام في إفريقيا.. من هنا كانت الحرب على السودان تستهدف العروبة والإسلام في جزءٍ هام من الجغرافية العربية والإمكانيات التي تجعل الرسالة قادرة على التحرك.
لم تتوقف المؤامرة عند شق الجنوب، فهي متواصلة لشقّ عدة أقاليم ليصبح السودان الكبير دولاً ثلاثة أو أربعة، هزيلة مشتتة متصارعة مخترقة لإسرائيل والغرب.. فالاستعماريون الغربيون يفصِّلون لكل بلد عربي أزمة بحجمه، وبمعطيات واقعية تجعل إمكانية خروجه منها شبه مستحيلة، فكل حل للمشكلة هو إمعانٌ في السقوط لما هو أكثر تعقيدا منها.. ولئن اختاروا لسورية نموذجا، واختاروا للعراق نموذجا آخر، ولليبيا نموذجا ثالثا، فهم يختارون للسودان نموذجا مختلفا، ولكن القصد كله إنجاز نصر استراتيجي غربي يحقق عدة أهداف، أوّلها حرمان العرب من عمقهم الأفريقي الاستراتيجي، وحرمانهم من ثروات بلد عربي غني يمثل لهم سلة غذائهم في مرحلة ستشهد بعد قليل الحرب على الغذاء، فتكون حرب الغربيين على السودان هي حرب على مستقبل العرب، وعلى رسالتهم، ومن هنا بالضبط لا يتوقف العقل الاستعماري عن التفكير في إرهاق السودان واستنزافه وللأسف بمشاركة دول عربية لم يتوقف تآمرُها عليه، وأحيانا تمارس ضده الابتزاز العنيف وتخيّره بين سبيلين أحلاهما مرّ.
السودان .. معركة على حدود الحلم العربي

اترك تعليقا