في غزة وما أدراك ما غزة، تسجل الأمة واحدة من المعارك التاريخية على مدار 45 يوما تضخ دما في نهر التضحيات اللاحب المتدفق نحو اعلان كرامتنا العزيزة، وردنا على الظلم العالمي والتاريخي.. همم الرجال الذين صفت أرواحهم من حساباتنا وانبعثت لوضع قطار الأمة على السكة الصح في مواجهة الفرقاطات والبارجات والصواريخ بكل انواعها واجهزة الامن بكل عناوينها والمتخاذلون بكل اصنافهم والخونة بكل الوانهم.. فمعذرة لشعب فلسطين أننا لم نستطع استيعاب الدرس بعد معذرة لهم ونحن نحاول اجراء حسبة الربح والخسارة في معركة الشرف والكرامة حيث ينبغي ان تقاس الامور بغير مقياس الربح والخسارة.. معذرة لدمهم وجراحهم وجوعهم والامهم ومعذرة لبيوتهم المدمرة وصراخ اطفالهم تحت الانقاض وهم يكررون: لن نرحل.. وحسبنا الله ونعم الوكيل.
طبيعة المعركة واطرافها:
معركة غير مسبوقة.. هذا ما يقوله كل الاستراتيجيين من الباحثين والمتابعين لمجريات المعركة، وهذا أصبح من المتكرر في الاعلام وفي خطاب الساسة.. وهنا نذهب الى السؤال: أين نضع هذه المعركة فهل هي ضربة تاريخية ضرورية، ام أنها مغامرة خطيرة في مسار القضية الفلسطينية؟ بأي معيار نقيم ما حصل؟ ان مساحة المعركة ليست فقط بين جنود العدو وعتاده من جهة والمقاومين الفلسطينيين من جهة اخرى، فلقد امتدت ساحة النار الى المواطنين العزل من اطفال ونساء وشيوخ نالت منهم الحرب المنال الاكبر فكان الاطفال هم وقود الحرب، وتهجير الفلسطينيين هو العمل المتفق عليه دوليا على الصعيد الرسمي لدى صناع القرار الامريكي ومن لف لفه.. فالمعركة بهذا المعنى تصنف على رأس قائمة الحروب الوجودية، العدو فيها يستغل نقطة ضعف المقاومة الفلسطينية المتمثلة بحاضنتها الشعبية العزلاء حيث طور عدوانه الوحشي على المدنيين الى اقصى ما يمكن تخيله مرفوقا بتهديدات ابادة بالقنابل الذرية وان كان قد سقط على غزة ما يساوي عدة قنابل ذرية..
ليس هذا هو المشهد الكلي للمعركة، فهناك المواجهات الذكية والضاربة في ازقة غزة وعلى مادخلها حيث فوهات الانفاق وما تحمله من انبعاث للصواريخ والقنابل والرصاص او ما تستقبل به الغزاة من تشريك متفجرات تحيل خبراتهم الى شظايا متناثرة..
الامر واضح فيما تتناقله اذاعات العدو عن نقل مئات المصابين من ساحة المعارك بالطائرات الحربية الى المستشفيات او المقابر وما يبثه اعلام المقاومة يوميا موثقا بالتصوير مع صعوبة امكانيته وهو يرصد كيف يتم اقتناص الجنود والاليات عبر عمل فدائي مبدع يعبر عن دربة واقدام عاليين.. ورغم كثافة النيران واستقدام خبرات عسكرية من عدة دول غربية واستخدام اكثر الاسلحة فتكا وتدميرا لم يستطع العدو حتى اللحظة ان يعلن انه يسيطر على شبر واحد من غزة.. فهو قد يستطيع الاجتياح لكن السيطرة لا يمكنه ابدا، وقد يستطيع الاحتلال لكن التحكم لا يمكنه ابدا.. بل لعل اجتياحه يصبح الفرصة للمقاومين بعد ان يسقطوه في كمائنهم ويستدرجونه الى مقاتله.
المعركة لا تشمل فقط ساحة غزة بل ان التمدد المنطقي والطبيعي وصل الى مدن الضفة الغربية وقراها ومخيماتها، حيث يخوض ابطال المقاومة الفلسطينية معارك وجها لوجه ومن نقطة صفر اسفرت حتى الان عن ارباك الجيش الصهيوني وجره الى الخلف واشغال اجزاء منه بعيدا عن ساحة المواجهة الرئيسية في غزة وقد قدمت المقاومة الفلسطينية في الضفة الغربية مئات الشهداء ولا زالت المواجهات في عديد من نقاط الاشتباك في الخليل وجنين ونابلس والقدس و طولكرم.
نحن الان في معركة مفتوحة على كل الوطن وقد ادرك الصهاينة انهم الان بصدد مواجهة حقيقية وانهم ازاء عملية كبيرة تقتضي منهم القيام بكل ما لديهم من وسائل وتوظيف كل ما يستطيعون من اجل القضاء على همة الشعب الفلسطيني وارادته والعمل بكل الوسع لكسر عزيمته.. ولا يمكن استثناء التجمعات الصهيونية من المواجهة حيث اصبح اللجوء للملاجيء سمة بارزة في الحركية الامنية في الكيان الصهيوني ولم يعد هناك مكان في الكيان الصهيوني امنا بل ان صواريخ المقاومة التي تأتي بغتة تجعل الكيان كله على قلق وخوف وانهيار نفسي بلغ ذروته.
وبعيدا عن الأحكام المسبقة حيث الخصوم المناوئين والموالين المنحازين، اي منهجية نعتمد؟.. انها لحظة تاريخية حرجة وحاسمة تلزم المتحدث كثيرا من الانصاف واليقظة.. فما يجري ليس لعبة كرة قدم تهيج المشاهدين واذا ما انتهت انصرفوا الى اشغالهم.. انها ملحمة لها مابعدها..
وبعيدا عن الاختصار المسخ الذي يحكم على الواقعة بما سينتج عنها بشكل سطحي نصر أو خسارة..نريد أن نتناول ما حصل من خلال جردة حساب لكل ما نتج حتى الان من وقائع على الارض ..
الموقف الدولي والعربي:
من الواضح أن عملية 7 أكتوبر بلغت مبلغها في اشعار الكيان بان وجوده مهدد واشعار الامريكان والغربيين ان اهم قاعدة عسكرية امنية استراتيجية لهم خارج قاراتهم اصبحت في مهب الريح وانها قابلة للسقوط والانهيار..
ان ما تم في الساعات الاولى ليوم 7 أكتوبر يعبر عن حقائق عديدة أولها القدرة الفائقة لدى الفلسطينيين على توظيف ما بين ايديهم من خبرات ومعرفة لاختراق امن العدو والسيطرة عليه وثانيها هذه الفدائية المتميزة التي تجلت في اقتحام المقاومين خلال الدفعة الاولى حيث استطاع 800 مقاوم من السيطرة الكاملة على مراكز امن استراتيجية من ضمنها قيادة القوات الصهيونية الحدودية واعتقال القادة الصهاينة والسيطرة على مواقع رعيم وايرز واوفوكيم حيث تم الاستيلاء على ارشيفات الامن الصهيوني وشبكات التجسس في المنطقة العربية والاوربية وكذلك وسائل الاتصال مع شبكات التجسس والخطط الامنية التي تنوي القيام بها قوات العدو وكذلك شبكات العملاء في الارض الفلسطينية.. هذا بالاضافة الى مئات الجنود الصهاينة الذين قتلوا في المواجهات الخاطفة.. ان ما حصل يوم 7 اكتوبر فوق ان يمكن تخيله على مستويين الاول روح الاقدام والوعي والمعرفة لدى المقاومين والمستوى الثاني انهيار القوات الصهيونية بطريقة لا يمكن تفسيرها الا بسبب الخور والهزيمة الداخلية كما كان لهول الصدمة اثرا بالغا في النتائج.
لا اريد سردا لما حصل في ذلك اليوم الكبير ولن احيط به مهما استطعت فكثيره لايزال في محط السر لدى المقاومة الفلسطينية، وماذاك اريد انما هي الاشارة لحدث كبير غير النفسيات والامزجة وطرق التفكير بل والسياسات وهو يسير لتغيير المعسكرات وترتيب الجبهات فهذا اليوم اظهر اصدقاء اقوياء للشعب الفلسطيني كما انه كشف حقيقة الادعياء ممن كانوا يتغنون بفلسطين وبثورتها.. هذا اليوم كشف حقيقة الموقف الامريكي الكاذب الذي مثل علينا دور الوسيط عشرات السنين، وكذلك كشف لنا حقيقة الموقف الاوربي المنافق المكبل بلوبيات الضغط المالي العالمية، ولكن الاهم من ذلك انه فضح سيطرة رأس المال العالمي على القرارات الدولية، فمن المعروف ان حجم الديون التي تسيطر على العالم وهي تبلغ عشرات تريليونات الدولارات منها 31 تريليون على امريكا و3 تريليون على اوربا تمارس سياسة الربح والخسارة المادية والتي تقف الحروب والاوبئة على راس مصادرها المالية وهي تدفع الساسة والاحزاب الى المواقف التي تفتح ابواب الخزائن وتجلب من خلالها الاموال فيما هي تبتز الحكومات والاحزاب ومراكز الابحاث.. لقد تكشف دور رأس المال العالمي بدفعه الى حرب تستهلك مليارات الدولارات في سلاح مجنون لا حاجة له ضد شعب اعزل يتم تجريب احدث ما ينتجه مجمع الصناعات الحربي في امريكا عليه.
الا ان الحكومة السرية والمنظمات التابعة لها تكشفت للمرة الاولى كما لم يتحدث لها من قبل.. فلقد كان عدوان الحكومات الامريكية مدفوعة من صناع القرار الحقيقيين تتم فيما سبق بمسوغات عديدة كما حصل في افغانستان والعراق حيث ان تهمة البرجين لحقت بافغانستان وخديعة الفخ الكويتي لحقت بالعراق كما ان حرب روسيا في افغانستان وجدت مسوغا كبيرا لدفع امريكا حربا لا هوادة فيها حشدت لها العالم مما يعني تنشيط الات مصانع السلاح في امريكا واوربا الامر الذي يعني ارتهان الدول اكثر الى صناع القرار العالمي من كبار رجال المال..
ولكنها في مشهد فلسطين تعرت من كل زيفها، ورغم ما حاولته الادارة الامريكية وحليفاتها من تكريسه في وسائل الاعلام بان حماس داعش وعليه ينبغي ابادتها حتى لو ادى ذلك الى ابادة قطاع غزة.. لقد انتقل بايدن وهو رجل عجوز يتحرك بصعوبة الى الكيان الصهيوني والحق به وزير خارجيته ووزير دفاعه والمستشار القومي للامن وومسؤول السي أي ايه وخبراء كما اندفع رؤوساء وحكام اوربا ودفع كل منهم بقوات الى ساحة المعركة من ايطاليا والمانيا وفرنسا وبريطانيا وامريكا..
لقد كان حجم الدعم المادي والسياسي والمعنوي الامريكي والاوربي مثيرا للرأي العام العالمي فهل يعقل ان تعلن حربا عالمية على بقعة جغرافية لاتزيد عن 360 كيلو متر مربع وعلى شعب لايزيد عن 2.5 مليون نسمة محاصر منذ اكثر من 16 سنة..؟
وقد انتقل حكام امريكا والغرب الى كل العواصم العربية يلقون على حكامها الدرس تلو الدرس ان حماس ارهابية وان لاسرائيل الحق في الدفاع عن وجودها بل كما قال وزير خارجية امريكا على اسرائيل واجب الدفاع عن وجودها.. ولم يرد عليهم أي حاكم عربي بان القضية ليست حماس انما هي الشعب الفلسطيني المظلوم.. بل انصاعت بعض وسائل الاعلام التلفزيونية والصحفية لوصف المقاومة الفلسطينية بالارهابية.. و امام طروحات العدو بترحيل اهل غزة تبارى الحكام العرب باقتراحات ترحيلهم الى صحراء النقب او سوى ذلك ولم يستطع الموقف الرسمي العربي تجاوز مكانه في التعاطف مع المدنيين من كلا الجانبين وادانة قتل المدنيين من الجانبيين..
الشعوب الامريكي والاوربي:
يجب تسجيل وبكل اعتزاز الموقف الانساني الكبير الذي تبديه قطاعات واسعة من الشعوب الامريكية والاوربية فلقد انطلقت شبيبة امريكا بكل يقين وبضغط متزايد على ساكني البيت الابيض الذين يصرون على عدم وقف اطلاق النار.. بمعنى ان ادارة البيت الابيض ترفض توقف القتل المتواصل الشامل لاهل قطاع غزة.. ولقد كان لتسريب مشاهد المجازر للراي العالم الامريكي والاوربي القدرة على اخراج الشارع بقوة وكشف الفضيحة ولقد كان للشعب الامريكي الحضور المتميز فلقد تقدم المتظاهرون الى التواجد في اماكن حساسة في محطات القطار لمنع الحركة وللجسور الرئيسية في سان فرانسيسكو ووضع الاكفان عليها ورود حمراء في ساحات البيت الابيض بل واقتحام الكونجرس والمطالبة بوقف الحرب.. ووصل الامر بتهديد سحب كل الارصدة والاموال من البنوك الامر الذي يصيب بالذعر الحكومة السرية.. ولقد تمدد الرفض الى داخل دواليب وزارة الخارجية الامريكية والبيت الابيض وتوالت الاستقالات ومذكرات الاحتجاج وارتفعت اصوات رؤساء سابقين مثل اوباما وترمب وسياسيين كثيرين برفض الموقف الامريكي وادانته..
الشعب الامريكي والشعوب الاوربية لاسيما بريطانيا وكثير من الدول الاوربية وقفت ببطولة امام ضغوط رأس المال العالمي على حكوماتهم المستلبة التي لم تجد بدا من تعديل خطابها السياسي امام سيل الرفض الشعبي المتزايد الى درجة القاء بعض الوزراء المتطرفين خارج الحكومة.. لقد اسهمت حالة الغليان السياسي والانساني في اوربا وامريكا الى تدني شعبية الحكومات وارتفاع مستوى حضور المعارضات.
غزة تعيد ترتيب العالم:
لقد بدأت تصدعات السياسات الدولية فلقد ابلغت ممثلة بايدن حكام كييف باحتمال توقف الدعم الامريكي لاوكرانيا.. الامر نفسه وفي السياق ذاته ذهبت وول ستريت جورنال الى القول ان بوتين قد صمد وحان الوقت لوقف الاوهام حول هزيمة روسيا.. كما ان كثيرا من الدول التي كانت تحت طائلة الحصار الامريكي باتت في متنفس من امرها ولعل تطور يوميات الحرب ونتائجها تحرر القرار الاوربي من سطوة الامريكان.. واما الكيان الصهيوني فهو في حالة من الازدراء العالمي فلقد ذهبت سطوة الهولكوست ولم يعد للصهاينة ان يتغنوا بتلك المعزوفة فهاهم على مشهد من العالم يرتبكون اكبر هولوكست ولعل هذه اكبر خسائر الكيان المعنوية.. ثم ان الاوضاع في النظام العربي لن تستمر طويلا فمن المؤكد ان الدم يتحرك الان في احرار العرب والمسلمين الذين سيضعون حدا قريبا للاوضاع المختلة المعيبة.
بلا شك انتصرت فلسطين في ملحمة الوجود انتصرت بصبرها ويقينها وايمانها بفلسطين وبايمانها بربها ايمانا حقيقيا وبحسبة كبيرة على المستوى المحلي والاقليمي والدولي .. اعادت المقاومة الفلسطينية قضية فلسطينة حية طرية من جديد وهذا اكبر انتصار للشعب الفلسطيني رغم التضحيات العزيزة المؤلمة والله غالب على أمره.
